فصل: (الانفطار: الآيات 17- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

سورة الانفطار:
مكية.
وآياتها 19.
نزلت بعد النازعات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الانفطار: الآيات 1- 5]

{إِذَا السَّماءُ انفطرت (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انتثرت (2) وَإِذَا الْبِحارُ فجرت (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأخرت (5)}
{انفطرت} انشقت {فجرت} فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما، وصارت البحار بحرا واحدا.
وروى أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن، وقرئ: {فجرت}، بالتخفيف.
وقرأ مجاهد: {فجرت} على البناء للفاعل والتخفيف، بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظرا إلى قوله تعالى: {لا يَبْغِيانِ} لأنّ البغي والفجور أخوان. بعثر وبحثر بمعنى، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما. والمعنى: يحثت وأخرج موتاها.
وقيل: لبراءة المبعثرة، لأنها بعثرت أسرار المنافقين.

.[الانفطار: الآيات 6- 8]

{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)}.
فإن قلت: ما معنى قوله: {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به، وإنما يغتر بالكريم، كما يروى عن علي رضي اللّه عنه أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك وأمنى من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه. وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه.
قلت: معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم اللّه عليه، حيث خلقه حيا لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغترارا بالتفضل الأوّل، فإنه منكر خارج من حد الحكمة، ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما تلاها. «غرّه جهله» وقال عمر رضي اللّه عنه: غرّه حمقه وجهله.
وقال الحسن: غره واللّه شيطانه الخبيث، أى: زين له المعاصي وقال له: افعل ما شئت، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا وهو متفضل عليك آخرا، حتى ورطه. وقيل للفضيل ابن عياض: إن أقامك اللّه يوم القيامة وقال لك: {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ماذا تقول؟ قال أقول: غرتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطإ في الاغترار بالستر، وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويطن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم: إنما قال: {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} دون سائر صفاته، ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّنى كرم الكريم.
وقرأ سعيد بن جبير: {ما أغرك}، إما على التعجب، وإما على الاستفهام، من قولك: غرّ الرجل فهو غارّ: إذا غفل، من قولك: بيتهم العدوّ وهم غارّون. وأغرّه غيره: جعله غارا {فَسَوَّاكَ} فجعلك سويا سالم الأعضاء {فعدلك} فصيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، ولا بعض الشعر فاحما وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشى قائما لا كالبهائم. وقرئ: {فعدلك} بالتخفيف. وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بمعنى المشدّد، أى: عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت.
والثاني: {فعدلك} فصرفك. يقال: عدله عن الطريق يعنى: فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات. {ما} في {ما شاءَ} مزيدة، أى: ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه.
فإن قلت: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟
قلت: لأنها بيان لعدلك.
فإن قلت: بم يتعلق الجار؟
قلت: يجوز أن يتعلق بـ: {ركبك}. على معنى: وضعك في بعض الصور ومكنك فيه، وبمحذوف: أي ركبك حاصلا في بعض الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ويجوز أن يتعلق بعدلك، ويكون في (أى) معنى التعجب، أي فعدلك في صورة عجيبة، ثم قال: ما شاء ركبك. أى. ركبك ما شاء من التراكيب، يعنى تركيبا حسنا.

.[الانفطار: الآيات 9- 12]

{كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)}.
{كَلَّا} ارتدعوا عن الاغترار بكرم اللّه والتسلق به، وهو موجب الشكر والطاعة، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية، ثم قال: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أصلا وهو الجزاء.
أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثوابا ولا عقابا وهو شر من الطمع المنكر {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ} تحقيق لما يكذبون به من الجزاء، يعنى أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم: تعظيم لأمر الجزاء، وأنه عند اللّه من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه، ويجازى به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة. وفيه إنذار وتهويل وتشوير للعصاة ولطف للمؤمنين.
وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين.

.[الانفطار: الآيات 13- 16]

{إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يوم الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائبين (16)}.
{وَما هُمْ عَنْها بِغائبين} كقوله: {وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها} ويجوز أن يراد: يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك، يعنى: في قبورهم.
وقيل: أخبر اللّه في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحال الآخرة التي يجازى فيها، وحال البرزخ وهو قوله: {وَما هُمْ عَنْها بِغائبين}.

.[الانفطار: الآيات 17- 19]

{وَما أَدْراكَ ما يوم الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يوم الدِّينِ (18) يوم لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يومئِذٍ لِلَّهِ (19)}.
يعنى أن أمر يوم الدين بحيث لا ندرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة وكيفما تصورته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول في وصفه فقال: {يوم لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تستطيع دفعا عنها ولانفعالها بوجه ولا أمر إلا للّه وحده. من رفع فعلى البدل من {يوم الدين}، أو على: هو يوم لا تملك. ومن نصب فبإضمار يدانون، لأنّ الدين يدل عليه. أو بإضمار اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في محل الرفع.
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {إذا السماء انفطرت} كتب اللّه له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إذا السماءُ انفطرت} فيه وجهان:
أحدهما: انشقت.
الثاني: سقطت، قال الشاعر:
كانوا سعوداً سماءَ الناس فانفطرت ** فأصبح الشمل لم ترفع له عُمُد

{وإذا الكواكب انتثرت} يعني تساقطت، قال ابن عباس، تسقط سوداء لا ضوء لها.
{وإذا البحار فجرت} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: يبست، قاله الحسن.
الثاني: خلطت فصارت بحراً واحدًّا، وهذا معنى قول ابن عباس، قال: وهو سبعة أبحر فتصير بحراً واحدًّا.
الثالث: فجر عذبها في مالحها: ومالحها في عذبها، قاله قتادة.
ويحتمل رابعاً: أي فاضت.
{وإذا القبور بُعْثِرتْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بحثت وثوّرت، قاله ابن عباس وعكرمة، وقال الفراء: فيخرج ما في بطنها من الذهب والفضة، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها ثم تخرج الموتى.
الثاني: حركت للبعث، قاله السدي.
الثالث: بعث من فيها من الأموات، قاله قتادة.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمَتْ وأخرت} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ما عملت وما تركت، قاله ابو رزين.
الثاني: {ما قدمت} من طاعة، {وأخرت} من حق الله، قاله ابن عباس.
الثالث: {ما قدمت} من الصدقات وما أخرت من الميراث.
ويحتمل {ما قدمت} من معصية {وأخرت} من طاعة، لأنه خارج مخرج الوعيد، وهذا جواب {إذا السماء انفطرت} لأنه خبر، وجعلها الحسن قَسَماً وقعت على قوله: {علمت نفس} الآية.
والأظهر ما عليه الجماعة من أنه خبر وليس بقسم.
{يا أيها الإنسان ما غّرَّك بربِّكَ الكريم} في الإنسان ها هنا ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه إشارة إلى كل كافر.
الثاني: أنه أبي بن خلف، قاله عكرمة.
الثالث: أنه أبو الأشد بن كلدة بن أسد الجمحي، قاله ابن عباس.
وفي الذي غرَّه قولان:
أحدهما: عدوه الشيطان، قاله قتادة.
الثاني: جهله، وهو قول عمر بن الخطاب.
ويحتمل قولاً ثالثاً: إنه إمهاله.
{الكريم} الذي يتجاوز ويصفح، وروى الحسن أن عمر بن الخطاب لما قرأ {يا أيها الإنسان}... الآية، قال: حمقه وجهله.
{الذي خَلَقَك فسَوَّاك فعدلك} يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: فسوى خلقك وعدل خلقتك.
الثاني: فسوَّى أعضاءك بحسب الحاجة وعدلها في المماثلة لا تفضل يد على يد، ولا رجل على رجل.
الثالث: فسواك إنساناً كريماً وعدل بك عن أن يجعلك حيواناً بهيماً.
قال أصحاب الخواطر: سوّاك بالعقل وعدلك بالإيمان.
{في أَيِّ صورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما شاء ركبك من شبه أم أو أب أو خال أو عم، قاله مجاهد.
الثاني: من حسن أو قبح أو طول أو قصر أو ذكر أو أنثى، قاله ابن عيسى.
الثالث: في أي صورة من صور الخلق ركبك حتى صرت على صورتك التي أنت عليها أيها الإنسان لا يشبهك شيء من الحيوان.
وروى موسى بن على بن رباح اللخمي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجده: «ما ولِدَ لك؟» قال: يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية، قال رسول الله: «ومن عسى أن يشبه؟» قال: إما أباه وإما أمه، فقال عليه السلام عندها: «مه لا تقولن هكذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت في كتاب الله: {في أي صورة ما شاء ركبك}».
{كلاّ بَلْ تُكّذِّبونَ بالدِّين} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: بالحساب والجزاء، قاله ابن عباس.
الثاني: بالعدل والقضاء، قاله عكرمة.
الثالث: بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عيسى.
{وإنَّ عليكم لحافِظِينَ} يعني الملائكة، يحفظ كلَّ إنسان ملكان، أحدهما عن يمينه يكتب الخير، والآخر عن شماله يكتب الشر.
{كِراماً كاتِبينَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: كراماً على الله، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: كراماً بالإيمان، قاله السدي.
الثالث: لأنهم لا يفارقون ابن آدم إلا في موطنين عند الغائط وعند الجماع يعرضان عنه ويكتبان ما تكلم به، فلذلك كره الكلام عند الغائط والجماع.
ويحتمل رابعاً: كراماً لأداء الأمانة فيما يكتبونه من عمله فلا يزيدون فيه ولا ينقصون منه.
وفي قوله تعالى: {إنّ الأبرارَ لفي نَعيم وإن الفُجّارَ لقي جَحيمٍ} قولان:
أحدهما: في الآخرة فيكون نعيم الأبرار في الجنة بالثواب، وجحيم الفجار في النار بالعقاب.
والقول الثاني: أنه في الدنيا، فعلى هذا فيه أربعة أوجه ذكرها أصحاب الخواطر.
أحدها: النعيم القناعة، والجحيم الطمع.
الثاني: النعيم التوكل، والجحيم الحرص.
الثالث: النعيم الرضا بالقضاء، والجحيم السخط فيما قدر وقضى.
الرابع: النعيم بالطاعة، والجحيم بالمعيصية.
{وما هُمْ عنها بغائبين} فيه وجهان:
أحدهما: عن القيامة تحقيق للبعث فعلى هذا يجوز أن يكون هذا الخطاب متوجهاً إلى الأبرار والفجار جميعاً.
الثاني: عن النار، ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفجار دون الأبرار، والمراد بأنهم لا يغيبون عنها أمران:
أحدهما: تحقيق الوعيد.
الثاني: تخليد الفجار.
{وما أدْراك ما يوم الدِّين ثُمَّ ما أدْراكَ ما يوم الدِّين} يعني يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وفي تكراره وجهان:
أحدهما: تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره.
الوجه الثاني: أن الأول خطاب للفجار والثاني خطاب للأبرار ترغيباً.
{يوم لا تَمْلِك نفسٌ لنَفْسٍ شيئاً} يعني لا يملك مخلوق لمخلوق نفعاً ولا ضراً.
{والأمر يومئذٍ للَّهِ} فيه وجهان:
أحدهما: في الجزاء بالثواب والعقاب.
الثاني: في العقوبة والانتقام. اهـ.